يناير 20, 2011

نظام بن علي في تونس حمل بذور انهياره

By زيني محمد الأمين عباس
بالقدر الذي كان سقوط دكتاتورية بن على في تونس سريعا ومفاجئا بقدر ما كان متوقعا بالنسبة لكل الذين يتمتعون بحس موضوعي وباليسير من الاهتمام والمتابعة للشؤون التونسية وأوضاع هذا البلد الصغير بحجمه وبثرواته الطبيعية الكبير بموروثه الحضاري وبمستوى تقدمه في عديد المجالات مقارنة بأمثاله من البلدان العربية بصفة خاصة ودول العالم الثالث عموما.
انطلاقا من متابعتي للشأن التونسي كضيف أطال المقام في هذا البلد وأصبح من أهله يشاركهم أفراحهم ويتألم لآلامهم –ومأساة المرحلة أشدها وجعا- أستطيع الجزم بأن بذور انهيار هذا النظام مع بداية العشرية الثانية من القرن الواحد والعشرين تحت الضغط الشعبي زرعتها طبيعته الولائية على جميع المستويات وعدم اعتماده على الكفاءات الحقيقية في التنظير والتخطيط وكانت إصلاحات التعليم المتلاحقة منذ 1993 هي التربة الخصبة التي ترعرعت فيها تلك البذور ومحرك الهدم الفعال لكل توازنات المجتمع وبنية الدولة التونسية.
تلك الإصلاحات التي لم تكن في معظمها نابعة من حاجة حقيقية وملحة لإصلاح منظومة تربوية شهد لها التاريخ بالكفاءة والفعالية منذ الاستقلال حيث كانت خيارا استراتيجيا ناجعا بقدر ما هي استجابة لنهج التحيّل على مؤسسات النقد الدولية الذي اتبعه نظام بن علي لتمويل الفساد المالي والإداري المصاحب لتنفذ حاشيته المقربة من المفسدين واللصوص.
وقد عول نظام بن علي على جيش جرار من بسطاء التكوين والذكاء والسذج أحيانا في هياكل التجمع الدستوري الديمقراطي المنبثين في جميع القطاعات والمؤسسات عبر الشعب المهنية للحزب ولجانه المختلفة لتمرير الدعاية الرخيصة لمدى استشراف قرارات الرئيس في جميع المجالات وحجيتها الدامغة في وجه كل مشكك أو منتقد لا صفة له دون صفة الخيانة والكيد للبلد لدرجة أصبحت بها صفة معارضة قرارات الرئيس دالة على عدم الوطنية وتهمة تقطع بها الأرزاق بجرة قلم إن لم تكن تذكرة ذهاب بسيط لغياهب جب السجون أو ظلمات القبور، وقد كان هؤلاء –إضافة إلى ذلك الدور- يلعبون دور آذان وعيون النظام البوليسي الخفية التي تخمد خشيتها نية المعارضة في الضمائر والنفوس.
وقد واستعاض النظام عن التقييم الموضوعي لإصلاحاته التربوية المتلاحقة بمنهج تزوير محكم للنتائج ولغة خشبية ساذجة من قبيل “النجاح قاعدة والرسوب استثناء” و “إدخال فرحة النجاح لكل دار” والترويج لفكرة العبء الكبير لقطاع التعليم على ميزانية الدولة مما يستدعي إعادة النظر في آليات الرسوب الذي أصبح محظورا استجابة لقوانين عدم الانقطاع قبل سن السادسة عشر تلك القوانين التي ساهمت بفعالية في القضاء علىمؤسسات التعليم الخاصة وحرمانها بذلك من أن تلعب دور القطاع الموازي لقطاع التعليم العمومي والمستوعب للكثير من حملة الشهادات المؤهلة لمزاولة مهنة التدريس إضافة إلى تأثيرها السلبي على النسيج الحرفي في المجتمع حيث لم تعد المنظومة التربوية العمومية قادرة على اتخاذ قرار بإخلاء سبيل الذين لا يستطيعون مواكبة نسق التحصيل العلمي الضروري كي يلتحقوا بالقطاعات المهنية الحرفية المختلفة في سن يمكنهم تعلم حرفة يسترزقون من ورائها ويساهمون بذلك في عدم تصحر المجتمع من مثل هذه الحرف الخلاقة والمدرة للدخل والحافظة لتوازن المجتمع.
وقد أدى تسييس التعليم بالشكل الذي وصفناه إلى نتائج متعددة أبرزها القرارات المخجلة في حق باكالوريا التعليم الثانوي بإسعاف المتقدمين للمناظرة مسبقا بنسبة هامة من مجهودهم السنوي المزيف والتساهل المتزايد في الإصلاح إضافة إلى بعض عمليات الغش المنهجي في بعض المؤسسات أثناء المناظرة في السنوات الأخيرة سعيا وراء الرفع في نسبة النجاح إرضاء لصاحب القرار المطلق في تبصر “مصالح” شعبه.
وقد أوصل التسييس وعبث الجاهلين بالمنظومة التربوية إلى ما وصلت إليه تونس من تضاعف أعداد الناجحين في الباكالوريا وما تبعه من تخبط بإنشاء المؤسسات الجامعية ومضاعفة الاختصاصات الذي أدى إلى تزايد عدد حاملي الشهادات الجامعية الأكفاء وفقا للمقاييس المعتمدة ومن غير أصحاب الكفاءات المحققة الذين لا يجدون سبيلهم إلى سوق الشغل في ظل عزوف القطاع العمومي عن التشغيل استجابة لشروط مؤسسات النقد الدولية والانتقائية الشديدة التي يتخذها القطاع الخاص منهجا للاكتتاب فيبقون على هامش المجتمع بحسرتهم ونقمتهم على النظام والمتنفذين فيه الذين يحتكرون كل مفاتيح التوظيف ويتاجرون بالمناصب.
كل ذلك في جو يسوده طغيان منهج الإشاعة سلاحا ذو حدين استغله نظام بن علي الرجل-الدولة من خلال جهاز هذه الدولة البوليسي لبث الرعب ومقياسا فعالا لاختبار الرأي العام قبل اتخاذ القرارات المثيرة مثل الزيادة في الأسعار مثلا واستغله المتنفذون من حاشية بن علي في الدولة لتهيئة
التربة النفسية في المجتمع للسطو على الأملاك والمؤسسات العامة والخاصة فأثار كل ذلك الغضب الشديد والامتعاض من سلطة بن علي ومافيا أصهاره في نفوس كل التونسيين
.
وقد جنت تونس حصيلة كل ذلك بالحراك الشعبي في المناطق الداخلية المحرومة على مراحل بداية بأحداث الحوض المنجمي سنة 2008 انتهاء بثورة حملة الشهادات الجامعية التي انطلقت شرارتها بعمل يائس من أحد ضحايا ظلم وجور الإدارة المحلية في سيدي بوزيد.
والنتيجة الأجدر – في نظري – بأن نقف عندها بكل تجرد ومسؤولية هي ما عليه حال البلاد من انهيار تام لأجهزة الدولة خاصة نظاميها الأمني والإداري ولا غرابة في ذلك إذ تونس كغيرها من البلدان العربية دولة حزب رسّخ فكرة الرجل-الدولة، الرجل الرمز المطلق للوطنية المعصوم من الخطأ، المتبصر لكل المصالح وبانهيار سلطة الرجل تنهار الدولة.
غير أن الخطير في مثل هذا الانهيار المفاجئ هو بروز هشاشة الخارطة السياسية للبلد وسطحية المتطلعين لملئ الفراغ فيه من زعماء الأحزاب السياسية المعارضة إلى قادة الفعاليات النقابية وصولا إلى الشارع، الكل ركب الموجة بوصفه صاحب الفضل في اندلاع الثورة وإدارة فصول المواجهة التي أفزعت بن علي وهدت دعائم سلطانه متناسين أن المرحلة تقتضي درجة وعي أكبر من مجرد البراعة في التعبير عن التشفي والنشوة بالنصر والمغالاة في أساليب الاحتجاج والمطالبات التي لا تتسع لها طبيعة المرحلة الانتقالية أصلا ولا يمتلك القائمون عليها –أيا كانوا- كل الآليات الدستورية لتلبيتها إلى إدراك جملة المخاطر التي تتهدد البلد من فراغ دستوري وفوضى أمنية عارمة في الداخل وحدود مفتوحة قد يستغلها كثير من المتربصين بنجاح التجربة للفت أنظار شعوبهم إلى أن استقرار وأمن الأنظمة الدكتاتورية أفضل من فوضى الثورات الشعبية العفوية، بل وسيعملون بكل ما لديهم من إمكانيات على استنساخ أسلوب الفوضى-الحصانة الذي اتبعه النظامان السوري والإيراني في العراق لإقناع الولايات المتحدة الأمريكية بفشل نهج التغيير بالقوة الذي اتبعته مع نظام صدام حسين ويدفع الشعب التونسي بذلك أثمانا مضاعفة لما دفعه حتى الآن في سبيل إسقاط نظام بن علي.
وفي الختام أظن الصادق مع المجتمع التونسي وقادة الرأي فيه ينصح بالإسراع دون ما قيد أو شرط في وضع قطار المرحلة الانتقالية –ولو بعيوب فنية ظاهرة- على السكة وعدم تحميل هذه المرحلة أكثر مما تستطيع أن تتحمل بوصفها ممهدة للاحتكام للشعب التونسي لاكتساب شرعية حقيقة بممارسة السلطة فيه لا غير والتأسيس بذلك لديمقراطية نموذجية تغيّب فيها رمزية الحاكم المصلح المطلق أو الرئيس السحلية كما كان بن علي.

 


زيني محمد الأمين عبّاس
تونس في 20 جانفي 2011