فبراير 19, 2007
موريتانيا : جذور التخلف تعيق الديمقراطية
أن يأخذ الجيش على عاتقه انتزاع السلطة والحكم فهذا أمر طبيعي ألفه الموريتانيون منذ نهاية السبعينيات من القرن العشرين وحتى بداية شهر أغسطس سنة 2005، وككل مرة كان الجيش – وفي أول بياناته – يعد بأن يعيد الحكم إلى المدنيين إضافة إلى تبريره العمل بضرورة إصلاح الأوضاع والقضاء على الفساد وكبت الحريات …. ولكن أن يفي الجيش بوعوده فهذا أمر لم يعتد به الموريتانيون لذلك لا يصدقونه تماما.
وفي واقع الأمر تبدو المرة الأخيرة هذه مختلفة عن غيرها من المرات، فالجيش استولى على السلطة ليخرج نفسه من دائرة بات الاحتقان فيها المحيط والمساحة في نفس الوقت وذلك منذ بداية فترة الحكم السابق في نهاية 1984 وحتى سقوطه الذاتي إن جاز التعبير.
فديمومة الحاكم السابق وسيطرته الكاملة على جميع السلطات وتحويله للدولة بأكملها على كبر مساحتها إلى مسرحية هو فيها الكاتب والبطل والمخرج والجمهور أي بعبارة أكثر وضوحا لعبه لدور الرجل الدولة والمؤسسات، كل ذلك حدا بمجموعة من الضباط إلى السعي إلى الانقلاب كحل للوصول إلى الحكم وهو ما دفعت البلاد ثمنا له غالبا ما تمثل في عدم الاستقرار والصراعات الداخلية المعلنة والخفية.
وأبرز مظاهر عدم الاستقرار ذاك تصفية ذوي الأصول الأجنبية من الزنوج في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي خلال الأحداث التي طبعت توتر العلاقة بين نظام ولد الطايع من جهة وجمهورية السنغال وحليفتها آنذاك فرنسا، إضافة إلى محاولة الانقلاب الدموية التي قادها الرائد ولد حننة في بداية القرن الحالي وما كان لها من أسباب وانعكاسات على تقييد الحريات الفردية والجماعية.
وقد تبدو الصورة أكثر وضوحا إذا ما أشرنا إلى أن تلك الأحداث جميعها كانت تجري في جو من سوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية ناتج عن التصرف غير الرشيد الذي يعتبر أصلا للنظام السابق إذا ما علمنا أن سبب الإطاحة بسلف ولد الطايع لم يكن سوى تعنت ولد هيدالة ووقوفه متمنعا في وجه المؤسسات النقدية الدولية وإصراره على اتباع سياسة إصلاح ذاتية متمثلة في حسن التصرف في الموارد ومكافحة الرشوة والفساد الإداري وطرحه فكرة التمويل الذاتي للمشاريع عبر التبرعات ومتابعة المسؤولين من خلال المراقبة الشخصية والزيارات المفاجئة لجميع مؤسسات الدولة فشكل ذلك تهديدا لمصالح البنك الدولي وما يتفرع عنه من مؤسسات مالية تعمل على استغلال فقر الفقراء والتحكم فيهم بحاجاتهم لدمجهم في منظومتها الاقتصادية عبر الديون وتحقيق التنمية الوهمية أو تنمية المؤشرات وما إلى ذلك من سياسات دفع الموريتانيون ثمنا لها غلاء المعيشة وزيادة في الأسعار وتكريسا للاحتكار وطغيان الخطاب الحالم الذي يمجَد سلطة الحاكم العادل الصادق صاحب الرؤية المستقبلية الواعدة بتحقيق التقدم والرفاهية.
وأبرز الأدلة التي لا تدع مجالا للشكل على اتصاف ذلك النظام بسوء التصرف في الموارد الطبيعية التراجع عن التطبيق الصارم لقانون البحار وتخلي الدولة عن الدور الذي كانت من خلاله تستطيع أن تضمن الاستفادة من الثروة البحرية، إضافة إلى عقودٍ تحت الطاولة أبرمت مع الشركات العالمية المستثمرة في المجال النفطي. أي أن ذلك النظام كان له وجهان: وجه قانوني معلن يتم به توقيع العقود والإعلان عنها على شاشة التلفزيون ووجه مصلحي شخصي خفي يوقع رخصا يستظهر بها عند الضرورة إذا ما رام مسؤول صغير تطبيق نصوص الاتفاقيات المعلنة. مثال على هذا الوضع شباك الصيد التي يحدد قانون البحار حجمها الأدنى للمحافظة على تجدد الثروة ويوقع الوزراء والمسؤولون الكبار تراخيص بعيون شباك مجهرية للمؤسسات المرخص لها مقابل عربات دفع رباعي أو أموال في بنوك أجنبية ….
ولكي لا نبتعد كثيرا بالخوض في مواضيع الكل يعرفها نقول إن الجيش هذه المرة بدا جادا في التخلص من الحكم لأن هذا الأخير أصبح له بمثابة القنبلة التي تهدد وحدة كيانه ويتجلى ذلك من خلال منتديات الحوار الشامل والمفتوح التي هدفت إلى صياغة التصورات الأقرب إلى الإجماع الوطني لما ينبغي أن تكون عليه الفترة الانتقالية ومستقبل البلاد بشكل عام.
والمراقب للوضع من بعيد يلاحظ الالتزام شبه الحرفي بالبرنامج الانتقالي خطوة بعد أخرى والأهم من هذا الالتزام هو الرغبة الواضحة في تحكيم القانون من خلال تكريس سلطة الدستور.
والدستور الموريتاني – وإن افترضنا أنه كله مخالف لتطلعات الشعب – تشفع له ميزة واحدة في أن ينظر إليه على أنه دستور اللحظة المناسب، تلك الميزة هي ما سمي ببنود التداول السلمي على السلطة التي تحدد – وهذا هو الأهم – مدة الفترة الرئاسية بخمس سنوات لا غير وتحدَ تجديد هذه المدة لأي كان بمرَة واحدة إضافة إلى التنصيص على أن هذا أمر لا يجوز تغييره تحت أية طائلة كانت. فإن لم يكن في الدستور من الحسن سوى هذا فهو كله حسن.
بمعنى أن مشاكل المجتمعات المتخلفة تكمن في تحديد من يكون الرئيسَ والرئيسُ فيها لا يسعى إلى أن يكون يوما ما غيرَ الرئيس ويسهل تبرير التفاهات والسفالات في سبيل أن يتحقق ذلك. فإذا تجاوزت موريتانيا هذه المرحلة قبل غيرها من الدول المثيلة تكون قد قطعت أشواطا كبيرة في سبيل التقدم وتحقيق التنمية معا.
والمفارقة المقلقة في وقتنا الحالي أننا نسمع أصواتا في المجتمع الموريتاني تثير مخاوف جذورها الإشاعات وأحاديث المجالس والشوارع من تلك المخاوف على سبيل المثال مشكل المستقلين وضرورة أن يمنع الدستور إمكان ترشحهم وهو طرح مناف لمهامه، كذلك الضمانات التي يزعم أن المجلس العسكري يسعى لتوفيرها لنفسه بعد تسليمه السلطة للرئيس المنتخب، إضافة إلى حياد هذا المجلس من عدمه…….
مكمن القلق في ما تقدم في كونه دليلا على أن الفعاليات السياسية في موريتانيا غير ناضجة بما فيه الكفاية حتى تجعل من الإنجازات التي تحققت منذ أغسطس 2005 أساسا متينا لديمقراطية مستديمة تتجاوز كل عقبات التأسيس وتبني مستقبلا لم يعد الحكم فيه موضوعا للتجاذب والاحتقان السياسي وإنما هو حلقة من حلقات الإجماع الوطني تتنازع جميع الفعاليات السياسية للفوز به أثناء الاستحقاقات في أوقاتها والحملات الانتخابية بكل شفافية وعند حكم الشعب يسارع الخاسر قبل غيره لمباركة فوز خصمه مهنئا، فاتحا بذلك الباب أمام مشاركة الجميع كل من موقعه في بناء الوطن وتحقيق آمال وطموحات المواطن.
من ناحية أخرى لا أظن المجلس العسكري – الذي استولى على السلطة بمحض إرادته – راغبا في أن يستمر فيها بقدر ما أراه قام بذلك حفاظا على وحدة الجيش، تلك الوحدة التي وضعت على المحك مرات عديدة ودفع الشعب تبعات لذلك بمزيد تكرَس سلطة الرئيس السابق وتزايد الشرخ في المجتمع بين من لهم مصلحة في أن يبقى الوضع على ما كان عليه ومن يرغبون في التغيير لمصالح هم أدرى بها يحسبونها دائما لمصلحة الشعب والمواطن.
وفي هذا الصدد أودُ أن أشير إلى أن مفهوم المواطن أو المواطنة في المجتمعات غير المتقدمة التي تعتبر موريتانيا جزءً منها هو مصطلح صدق يراد به باطل : فالمواطن في نظام الدولة الرجل هو الذي لا يسعى إلى تغيير الوضع القائم لا يشفع له حب الوطن والإخلاص له إن هو عارض الرجل وتجرأ على انتقاد سياساته ولا يدينه كره الوطن والعمل على تدميره وأهله إن هو برهن على إخلاصه واستماتته في الولاء للرجل.
إن المتابع للشأن الموريتاني بعقل يقظ لا يفوته أن معارضة النظام السابق تجد صعوبة في الخروج من الزاوية التي كان ذلك النظام يحشرها فيها وذلك من خلال محافظتها على لغة الموزع للاتهامات والمتمترس خلف خندق المظلوم والساعي دوما إلى فضح مكائد ومخادعات السلطة وما إلى ذاك من خطاب قديم جديد، وهو أسلوب يترجم انعدام البرنامج السياسي المتكامل الذي يمكن من تصوُّر القدرة على تحمل المسؤولية وترسّخ ثقافة الثقة في القوانين وتحكيمها في كل ما يطرح على الساحة الوطنية من مشاكل وخلافات، وهو أمر للأسف ينم عن عدم النضج السياسي.
إن شكل ما يجري في موريتانيا جدير بالتقدير خاصة من جانبه المتمثل في الإطار القانوني والدستوري الذي يضمن خلق جوَ من التداول السلمي على السلطة وفق برنامج محدد بناء على الدستور وهو إطار تضمن الثقة فيه الحد من فاعلية رغبة المجلس العسكري الانتقالي الحاكم – إن كانت له رغبة – في التأثير على سير الأمور. فلو افترضنا أن المجلس العسكري يسعى إلى دعم مرشح للرئاسة أو حزب بعينه، لا يهمنا هذا الدعم أو القدرة على إنجاح تلك المساعي ما دام الرئيس أو الحزب المدعوم لا يستطيع التسلَط والتحكَم في رقاب الناس خارج الإطار الذي يحدده القانون وهذا أمر كفيل في حدَ ذاته بإزالة المخاوف.
وفي الختام من الجدير بالذكر التنبيه إلى أن الجهل وتدني مستوى الوعي في الساحة السياسية الموريتانية هما الخطر الأكبر على مستقبل الحياة السياسية في البلاد، فعندما تسارع الفعاليات السياسية دوما إلى البحث عن حلول تحت الحائط لمشاكل قائمة أو محتملة القيام متجاهلة بذلك الدستور الذي يفترض أن يكون المرجع الوحيد الأوحد لحل المشاكل والخلافات، عندها يكون الخطر على المسار الديمقراطي قائما.
فالفعاليات السياسية الموريتانية – إن رامت لشعبها حلولا نهائية لما كان يعانيه – تربح كثيرا أن تقوَي ثقتها بالقانون كحاكم لا يشيب رأسه ولا يموت وتعيّ جيَدا أن نجاح المسلسل الإصلاحي في البلاد لا يعني حتما وصولها هي دون غيرها إلى سدَة الحكم. فالحكم يستحقه من يقنع الموريتانيين بأن يصوتوا له ويمنحوه ثقتهم وفق برنامج واضح وضمانات حقيقية في العمل لصالح البلاد وأهلها، فإن ذهب كل مرشح للرئاسة بفكرة أنه هو الفائز حتما دون غيره وإلاَ ثمة تزوير نكون بذلك قد عدنا إلى زمن نظام مضى وفي هذه الحالة خسر الشعب وسيظل الدور المحتمل للجيش مستقبلا أفضل الحلول.
زيني محمد الأمين عبّاس
19 فيفري 2007