مايو 17, 2008

عـائـد من غوانتانامو

By زيني محمد الأمين عباس
إطلاق سراح مصوّر قناة الجزيرة الذي كانت تعتقله الولايات المتحدة الأمريكية منذ ما يزيد على ست سنوات في قاعدة غوانتانامو هو وكثيرون مثله ممن لهم صلة بالقتال أو بغيره من مجالات تثير شبهات أجهزة المخابرات الأمريكية والعالمية عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 وما لحقها من أحداث درامية في أفغانستان والعراق والشرق الأوسط من حولهما، أمر مفرح وسار بدون أدنى شكّ للرجل وذويه ولقناة الجزيرة إضافة إلى كل من يقدّر معنى الحريّة ويحسّ ويتألّم لفقدانها بالقهر والظلم والتسلّط.
غير أن ذلك الفرح وتلك الغبطة والبهجة والسرور يعاب بأن يكون غطاءً لاستغلال مفضوح لنهاية مأساة إنسانية في تكريس خطاب هو في الأساس منطلق مآسي نزلاء غوانتانامو وجميع الضحايا المباشرين وغير المباشرين للإرهاب ومن يدور في فلكه في القرن الواحد والعشرين.
فمن باب الدقة الزائدة والمفرطة في الملاحظة – ربّما – يمكن القول إنّ المصوّر المذكور – خلافا لنزيلين لغوانتانامو رافقاه في رحلة العودة إلى أرض الوطن وإلى الحرية – نزل من الطائرة العسكريّة الأمريكية على مدرج مطار الخرطوم بمساعدة الجنود الأمريكيين وأقل ما يمكن أن يقال عن حاله أنها تثير الشفقة، إذ اعتقله الباكستانيون على حدودهم مع أفغانستان وهو في صحّة جيّدة ويحمل على كتفه كاميرا قناة الجزيرة في أداء منقطع النظير لمهمّته كمصوّر يعمل بهذا المنبر الإعلامي العربي المشهود له بالمهنية والأداء المتميّز، وقد أبدعت الجزيرة منذ اعتقال مصوّرها في إقناع المشاهد بمناقبه ومهنيته أداءً لواجبها تجاهه وتجاه أهله، والأرجح بعد ذلك أن الباكستانيين سلّموا الرجل للأمريكان وهو على الحالة الصحية نفسها، وهاهو اليوم يعود والعناء الشديد والإعياء سمتاه البارزتان وقسوة قلوب الجلادين الأمريكان فوق تلكما السمتان أغلال بلاستيكيّة بها كبّلت يداه ولم يتركوا له طليقا إلا ساقان تنبؤ رؤية ارتخائهما عن عجز كامل عن الحركة والمشي أو عن شلل نصفي من أثر أساليب التعذيب التي أخبر عنها قلائل المحامين الذين استطاعوا ولوج عتبات أقفاص غوانتانامو وتناقلت عنهم الجزيرة وغيرها من وسائل الإعلام صرخات التنديد بسوء المعاملة وبعض صور المساجين مربوطين على عربات ألفها المشاهد تحمل ما ثقل من بضاعة في الأسواق الشعبية لمدننا العربية، زيهم البرتقالي به يتميزون عن أزياء السجناء في الأفلام أو عن تلك الأزياء التي كان النازيون يطبقونها على أشباح اليهود في الحرب العالمية الثانية. 
حالة المصور على النحو الذي بدت ووصفت عليه أعلاه مدعاة دون أدنى شك إلى ضرورة استقباله بعناية دقيقة ومتميزة إن لم نقل مركّزة وبطاقم طبّي كفئ متكامل على مدرج المطار أو على سلّم الطائرة حتى ولو حرمه ذلك كلّه من تقبيل أرض بلاده والتعبير عن فرحته بالعودة سالما كما فعل مرافقاه.
والمشاهد الساهر مع قناة الجزيرة لوقت متأخر لا يستطيع إلا ملاحظة مدى شغف وتعطّش هذا المنبر الإعلامي لرؤية مصوره إلى درجة تبدو معها ملموسة اللهفة المتزايدة مع تتالي نشرات الأخبار خاصة منذ هبوط الطائرة الأمريكية في أحد مطارات المملكة المغربية لتسليم نزلاء مغاربة لسجّانيهم على أرض الوطن مما منع القناة من استقاء بعض أخبار مصورها منهم، إلى لحظة إعلان هبوطها في مطار الخرطوم بعد ساعات جدّ قليلة، ووصف حالة العناء والتعب يبلغ بدقّته درجة يخال المشاهد محرّري تلك النشرات يرون ويسمعون حشرجة نفس وأنّات التعبير الصادق عن معاناة سامي الحاج على متن تلك الطائرة.
والأمر الذي يدعو المشاهد إلى أن يكون يقظا أكثر هو تتالي الأحداث منذ تسلّم السودانيون ذويهم والصدمة التي ولّدتها سرعة انتقال القضية عبر شاشة قناة الجزيرة من قضية سجناء سودانيين إلى مجرّد قضية سامي الحاج حيث لا نكاد نلمح خيال أحد مرافقيه يقبل صعيد مطار الخرطوم حتى تعود الصورة سامي الحاج والعناء والمرض والتعب الشديد يلفه يبتعد رويدا رويدا في دهاليز أحد المستشفيات ومن خلفه المدير العام لقناة الجزيرة يخابر ويطمئن برؤية ابتسامة فرحة سرقتها شفاه سامي المنهكة.
ولو أن الصورة وقفت عند هذا الحد لكان مفعول الصدمة هينا، إذ ما كادت تكتمل الساعة الجارية بعد دقائق معدودة من نقل ذلك المشهد حتى طالعتنا مقدمة النشرة مبشرة باتصال مباشر لأول مرة وعبر الهاتف مع سامي الحاج حرّا طليقا وعلى أرض وطنه وهو الاتصال المشكلة الذي أعتقد قناة الجزيرة في غنى عنه بتلك السرعة وتلك المهنية.
فسامي الحاج يبدو – من خلال الصوت على الأقل – في صحة تكاد تكون هي نفسها التي اعتقله فيها الباكستانيون ولله الحمد وزاد على تلك الصحة بذاكرة تخترق دقتها كلّ المألوف، إذ يسرد الرجل جميع أحداث معاناة منبر الجزيرة على هامش الصراع الأمريكي مع “الإرهاب” في أفغانستان والعراق بداية من قصف مقرها في كابول مرورا بطارق أيوب في العراق وصولا إلى تيسير علّوني…
والأغرب من ذلك جميعه أن السيد سامي الحاج يعتقد جازما – عبر نفس الاتصال أن الأمريكان ما اعتقلوه هو ومن معه من الشباب إلا لسبب يراه وحيدا هو “إيمانه وإياهم بالله سبحانه وتعالى”!. وفوق غرابة هذا التفسير والطرح تأتي غرابة أن الاتصال ذاك مع سامي الحاج – من خلال صور غد ذلك اليوم – لم يكن مجرّد اتصال هاتفي وحسب وإنما هو اتصال عبر الأقمار الصناعية غيّبت فيه الجزيرة الصورة بداية لتوهم المشاهد الساهر معها فرحا حرصا مبرّرا للهفتها على طمأنته على صحّة سامي الحاج دون أن تصل به دقّة الملاحظة إلى اكتشاف أن الجزيرة وسامي الحاج ونظام السودان ومن على شاكلتهم من المنخرطين في الرؤية والمنهج يريدون للمشاهد أن يرى القضية وما سواها بعينهم الإسلاموية التي ترى – وتريد لنا أن نرى ونؤمن معها – أن الآخر هو دوما الشماعة التي تصلح لأن تعلّق عليها هذه الأمة جميع المصائب والأزمات. تلك العين التي يريدون لنا أن نركبها معهم لا ترى إلا الصواب ولا تنطق عن هوى، يكفي أنها مصدر القول حتى يصبح القول صدقا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه
والأمثلة على رغبتهم تلك ومقصد نواياهم كثيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر أن قناة الجزيرة – وجميع المتحدثين الذين تغدق على أفكارهم بالوقت – تريد لمشاهدها أن يأخذ فكرة “الفوضى الخلاقة” أساسا ومنطلقا صالحا لتفسير جميع المواقف التي تتخذها الولايات المتحدة الأمريكية من قضايا العرب والمسلمين في الشرق الأوسط سواء أكانت مجرّد مواقف بالدعم والمساندة لبعض الحكومات العربية والإسلامية أو تدخلا فعليا بالجند والسلاح في بلدان أخرى، وترفض الجزيرة والإسلامويون من حولها رفضا قاطعا مجرّد التفكير في طرح فكرة أن “الفوضى الحصانة” أسلوب ومنهج تعتمده إيران والنظام السوري في تحالف مشبوه ومريب مع التيارات الإسلاموية والقاعدة في المنطقة عموما وفي العراق بشكل خاص وأن هذا الأسلوب وذاك المنهج هما الأقرب صدقا ومصداقية لتفسير ما يجري في العراق وفلسطين ولبنان من استباحة مجانية ومتعمّدة لأرواح الناس بهدف إقناع الولايات المتحدة الأمريكية بأن ما أقدمت عليه من تدخل فعلي في العراق قد فشل وأن ذلك الفشل المزعوم وحده – في النظر القاصر لهذا التحالف – كفيل بحملها على عدم التفكير في مهاجمة سوريا وإيران وسيثبط عزيمتها في محاربة شبكة القاعدة أينما وجدت.
مقصد آخر ينفذ له عقل المشاهد اليقظ يتمثل في المرور أخفّ من الكرام على شاشة الجزيرة على خبر عائد آخر من غوانتانامو فجّر نفسه في العراق متخطيّا عقبات عديدة يطول ذكرها تتصل بعبور الحدود وسوريا والفكر الإسلاموي… حصانة خبره من الذكر والتحليل هدفه “النبيل” في استهداف الجنود الأمريكيين في العراق ونشوة عرس العودة من غوانتانامو. 
زيني محمد الأمين عبّاس 
17 ماي 2008