فبراير 19, 2011
المجتمعات الثائرة وسبل استيعاب الإسلام السياسي
الآن وقد أصبحت الأنظمة الدكتاتورية جزءا من الماضي في كل من تونس ومصر وتترنّح لتكون كذلك في جلّ البلدان العربية والإسلامية الأخرى تقريبا بدأت التحديات الجسام تتبلور بشكل جليّ في وجه الشعوب التي خلعت رداءها الدكتاتوري النتن ولمّا تستتر بعد برداء ديمقراطي لا تعي تماما أن ارتداءه يتوقف على مدى حذقها تطريزه وترصيعه بما يزين حاضرها ومستقبلها.
ويشكّل التحدي الأول الأكثر بروزا ضرورة منع استدامة الوضع الـ”ديموضوي” السائد منذ لحظة سقوط الأنظمة، ذلك الوضع الذي يمثل الشكل الديمقراطي فيه نافذة أمل تفتح على مستنقع فوضى عارمة يخشى أن يكون ترسّخها لعنة تشفّي الأنظمة البائدة ودكتاتوريات الجوار على حد سواء من منطلق التقاء مصالح كل من الطرفين عند نقطة حقد وحسرة خاسري الحكم وريعه في بلدانهم مع مساعي التشبّث والبقاء التي يستميت حكام آخرون ويثخنون في دماء شعوبهم في سبيل إطالة أمد الاستفادة منه ولو إلى حين في ظل ما بدا من بعضهم من تنازلات إستباقية يائسة تهدف إلى إيهام الشعوب بأنهم تحولوا بين عشية وضحاها من جبابرة الدكتاتوريات إلى طالبي ديمقراطية حقيقية.
وهو تحد يخفي في طياته تحد ثان لا يقل أهمية يتمثل في الإسراع بإعادة تدوير عجلة الاقتصاد ولو بكل تعرجاتها السابقة وعيوب تبعية الاقتصاد الراسخة لمؤسسات النقد الدولي وإملاءاتها والطاقات المحدودة للخلق والإبداع تحاشيا لتراكم الآثار السلبية لتوقف تلك العجلة على اقتصاد شكلت هشاشته البنيوية المحرك الأبرز للثورات الشعبية التي أطاحت بالأنظمة.
ويتوقف رفع هذين التحديين على مدى نضج النخبة السياسية وقدرتها على تجاوز العقبات التي خلفتها عقود متلاحقة من الإقصاء المنهجي والحظر المطلق لممارسة العمل السياسي والتقديس المشين لشخوص الرؤساء والتغاضي المتعمّد عن كل أشكال التطاول على القيم الأخلاقية والمجتمعية طالما صاحب ذلك الالتزام بوجوب الاستقناع بثقافة كرة القدم بديلا عن كل الاهتمامات بالشأن العام ومجالا حصريا يستطيع الفرد فيه أن يعبّر بكل حرية عن رأيه واختلافه عن آراء الآخرين دون خشية متابعة أو تنكيل حتى وإن وصل به ذلك حدّ التطرف والتعدي على الممتلكات العامة والخاصة.
والأهم من هذا وذاك أو التحدي بكل ما تحمله كلمة التحدي من معنى في نظري هو ضرورة قطع الطريق على كل أولئك الذين يدّعون أن كل ما يطرحونه من أفكار على الساحة السياسية مستلهمة من الدين الإسلامي الحنيف ويسعون من وراء ذلك الإدعاء إلى الالتفاف على الطاعة الفطرية عند كل مسلم لتعاليم دينه والوصول به ملجوما بطاعته تلك لدعمهم في تطلعاتهم للوصول إلى السلطة في مسعى مفضوح للتأسيس لدكتاتورية الفكر الديني التي يسعون لتأسيسها على أنقاض تحالف دكتاتورية الحزب الواحد والفرد والعصابة.
وقد شكّل التخويف المستمر للشعوب من خطر وصول الإسلام السياسي للسلطة الشماعة التي علّقت عليها الأنظمة المحلية والأنظمة الغربية الداعمة خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001 علّة بقاء تلك الأنظمة رغم ما تمارسه من انتهاكات لحقوق الإنسان وتضييق لهوامش الحرية الفردية والجماعية.
إن ما يثير الخوف والقلق بشأن الإسلام السياسي – كي لا نبتعد كثيرا عن منهج الإنصاف والموضوعية – مثير للقلق بشكل جدّي سواء على المستوى السياسي أو على المستوى الفكري إذ يعد انعدام البنيوية في التفكير خاصة في جانبه المتعلق بعدم التقيّد بمنهج احترام بنية اللغة ودلالاتها الأساس الذي يقوم عليه الخداع السياسي للفكر الديني.
فنعت الذين يدّعون أن أفكارهم وأطروحاتهم السياسية نابعة من الدين الإسلامي بـ”الإسلاميين” فيه تعد سافر على عموم المسلمين، فالمصدر من الإسلام لغة صفة لكل ما له صلة بالإسلام وحصرية وصف المتسيّسين باسم الإسلام به يعطيهم حجما أكبر من حجمهم ويستفيدون من ورائه بالتحجّج على الأنظمة والمجتمعات بالتهديدات المبطّنة بقدرتهم على أن يكونوا بدائل ممكنة لتلك الأنظمة ويعمّم مضار كل ما يقومون به من أنشطة وحماقات أحيانا على الإسلام والمسلمين وهذا يفسّر الشعور السائد لدى جمهور المسلمين في زمننا الحاضر باستهداف الآخرين لهم ولدينهم أينما ما كانوا، ذلك الشعور المتأتي في الأصل من ما وصفته في أكثر من مناسبة بتجلّي الخلل في إدراك الذات عند معظم العرب والمسلمين خاصة منهم أولئك الذين يجعلون مقومات الهوية (العروبة والإسلام) ملهما أساسيا للفكر السياسي ويفتحون الباب بذلك على مصراعيه
لعلاقة تصادمية مع كل من لا يشاركهم الشعور بسلامة هذا الطرح أو الإحساس بالانتماء إلى العروبة أو إلى الإسلام قوام تلك العلاقة التصادمية مناصبة العداء وما يُرسى عليه من استسهال تحميل الآخر المسؤولية المطلقة عن كل الإخفاقات في ما يفهم منه تنزيه الذات وتعاليها عن القيام بكل ما من شأنه أن يحملها جزء من المسؤولية عن ما تعانيه مجتمعاتها من مظاهر التخلف والفقر والخصاصة أي غيّاب لأي شكل من أشكال النقد الذاتي البنّاء.
لعلاقة تصادمية مع كل من لا يشاركهم الشعور بسلامة هذا الطرح أو الإحساس بالانتماء إلى العروبة أو إلى الإسلام قوام تلك العلاقة التصادمية مناصبة العداء وما يُرسى عليه من استسهال تحميل الآخر المسؤولية المطلقة عن كل الإخفاقات في ما يفهم منه تنزيه الذات وتعاليها عن القيام بكل ما من شأنه أن يحملها جزء من المسؤولية عن ما تعانيه مجتمعاتها من مظاهر التخلف والفقر والخصاصة أي غيّاب لأي شكل من أشكال النقد الذاتي البنّاء.
ومن الناحية السياسية يعد الخلط بين مفهومي الدين والسياسة عند مدعّي التسيس باسم الدين والاستعاضة عن الجهد الفكري الضروري لاستنباط برامج سياسية نسبية ومتكاملة وتقديم المنظومة الدينية متكاملة جوهرا وروحا للفكر السياسي يخفي من سمات عدم التأهيل السياسي ما به تكون المخاوف من أن مبلغ ما يمكن أن يقوم به هؤلاء – إن هم وصلوا يوما للسلطة – هو التسلّط على الناس باسم الدين كما كان يتسلّط عليهم حتى الأمس القريب رؤساء ملوك باسم محاربة الاستعمار وتحقيق الاستقلال والوطنية والتنمية والاستقرار والتصدي للخطر المحدق من الفكر الديني…. ذلك التسلّط الذي أثبتت ثورات المحرومين والبسطاء بلوغه مداه ولم يعد من المجدي استراتيجيا العودة إليه بأي شكل من الأشكال.
وقد اقترحت انطلاقا من رغبة صادقة في البحث عن السبل التي تمكن من استيعاب الإسلام السياسي على علاّته في مجتمعاتنا العربية والإسلامية جملة من الأفكار في الشأن أهمها تلك التي وردت في مقال سابق معنون بـ”غيّاب المنطق في الفكر العربي الإسلاموي” بتسمية المتسيسين باسم الدين الإسلامي بـ”الإسلامويين” في خطوة تهدف إلى الإقرار بحق هؤلاء المشروع – من منطق السياسة – في ادعاء ما يرونه من علاقة لما يطرحونه بالدين الإسلامي وتمييزهم عن عموم المسلمين لدرئ مخاطر وتبعات ما يقومون به أو يدعمونه من أعمال الإرهاب أبرزها عن الإسلام وعن عموم المسلمين.
وهي تسمية ترفع اللبس الحاصل على الساحة السياسية العربية والإسلامية وتبرؤ ذمة الدين الإسلامي من قراءات المتطلعين باسمه للعب أدوار سياسية في مجتمعاتهم يفترض أن أهليتهم الفكرية وقدرتهم على إقناع شعوبهم بنضج البرامج التي يقدمونها ويسعون لتطبيقها طلبا لتحقيق المصالح هي وحدها معيار مشروعية تطلعهم للعب تلك الأدوار.
تقديم المنظومة الدينية على أنها برنامج سياسي يصل بالدعاة إليه حدّ المناداة بالقرآن الكريم دستورا للشعوب والدول بخل فكري واضح في نظري أكثر من كونه براعة في القدرة على تأويل النصوص الدينية أو درجة متقدمة في التفقه في الدين وجهل بطبيعة الدين والأهداف التي من أجلها شرع الله الأديان السماوية وأبدعت ملكات البشر أشكالا أخرى متعددة من الديانات إضافة إلى كونه قصورا عن إدراك معنى السياسة والأهداف التي من أجلها اتخذتها المجتمعات البشرية آلية نسبية ناجعة لإدارة شؤونها وفق التطوّع بالإنابة في تبصّر المصالح وطلبها بالجهد والإعداد والتنظير والتخطيط والتنفيذ.
كما اقترحت في مقال آخر بعنوان “الدين والسياسة: زواج بعقد طلاق” مبدأ جديدا أسميته “الدنيوانية” يقوم على الإقرار بالفصل بين الدين وبين السياسة استجابة لما أراه ضرورة ملحة لمجتمعاتنا العربية والإسلامية للتخلص من التراكمات المتلاحقة للقراءات المختلفة للمسألة الدينية التي هي في الأساس مسألة شخصية سواء في طبيعة التكليف الديني و توجيه الخطاب في الحياة الدنيا أو في تصورها للجزاء أو للعقاب في الآخرة. إقرار هذا المبدأ أتصور له صدى مماثلا وتأثيرا إيجابيا لا يقل أهمية عن صدى وتأثير إقرار مجتمعات الغرب المسيحي في فترة ما لمبدأ العلمانية الذي يطرح الفصل بين الدولة وبين الدين.
والمبدأ “الدنيواني” مستوحى من قناعة راسخة بأن ممارسة السياسة وما يرجى من ورائها من منافع حاضرة ومرتقبة لا معنى لها خارج الإطار الزمكاني المعروف بالدنيا ، مجال قدرة الإنسان على البذل والعطاء والتصرف في محيطه ومجاله طلبا للمنافع وتجنبا للمخاطر والأضرار، ومن هذا المنطلق يمكن أيضا أن نعطي المبدأ الدنيواني تسمية أخرى مرادفة في المعنى مختلفة في الشكل والاشتقاق وهي “المبدأ الإنسانوي” انطلاقا من أن الهدف من الممارسة السياسية هي مصلحة الإنسان ببعده الفاعل، فالإنسان ومصلحته هو غاية وهدف المجهود الذي تستنفر جميع طاقات الفكر والملكات التي يتمتع بها الجنس البشري لخدمته وتحقيق سعادته ورخاء عيشه بحسم كل ما بات حسمه ملحا وضروريا في ما تعلّق بأشكال التعايش وما تتطلبه من البحث عن التوازن بين معطيات تبدو متشابكة ومتناقضة أحيانا.
والدعوة للفصل بين الدين وبين السياسة نابعة من مستوى فهم متقدم لأهداف كل من الدين ومن السياسة، ففي الوقت الذي أفهم فيه أن الدور الأسمى للدين يقتصر على تحقيق التوازن النفسي للبشر الفرد ومن خلاله للمجموعة وسمو رسالته في ما يوفق في ترسيخه من قيم فاضلة تقوّم سلوك الفرد والمجموعة وتشكل الأرضية الخصبة للتعايش السلمي بين الأفراد في المجتمع. أفهم أيضا أن دور السياسة يقتصر على أن تكون منهجا وأسلوبا وضعيا من خلاله تسيّر أمور المجتمعات البشرية بناء على مجموعة من المبادئ والقيم المرتكزة في الأساس على الإقرار بأحقية ومشروعية اختلاف الأفكار والآراء.
فالدولة الدنيوانية أو الإنسانوية – في نظري – هي الإطار الأمثل الذي يستطيع كل انطلاقا من قناعاته أن يعبّر فيه عن أفكاره ويمارس جهوده الخاصة للمساهمة في إثراء المشهد السياسي، إطار يعمل فيه الإنسان الفرد – وفقا لتعاليم الدّين – لدنياه كما لو كان يعيش أبدا ويعمل لأخراه كما لو كان يموت غدا.
زيني محمد الأمين عبّاس
19 فيفري 2011