يناير 15, 2007
الاستعمار كان ولا يزال خير من يحمل الأوزار
غالبا ما يحمّل الاستعمار المسؤولية عن إخفاقات العديد من المجتمعات في تحقيق ما يصبو إليه الواعون والمسؤولون وأحيانا عامّة الشعب من تقدّم وازدهار وتحسّن في مستويات المعيشة وسير لوتيرة الحياة بالخطى التي تجعل الإحساس بدوران عجلة الزمن طبيعيا لا أثر سلبيّ لوقع خطاه.
ذلك أن الاستعمار قد يفسّر جزءا من هذا الإخفاق لكنه دون شك ليس التفسير السحريّ لكل المصائب فهو ظاهرة بشرية عرفتها الإنسانية في مرحلة من مراحل تطورها بعد البداية الحقيقية لما عليه حياة الإنسان من تعقيدات وتداخلات يصعب فهمها . هذه الظاهرة ولدتها أسباب موضوعية ما كانت لتؤديّ إلى غيرها من الظواهر. وأقرب تلك الأسباب الموضوعية إلى الفهم بداية توسع وفاعلية النشاط البشري في المجال في شكل نهضة صناعية تجاوزت إفرازاتها حدود الحاجة الضيقة للفرد وللمجموعة سواء من حيث المدخلات أو ضرورات التصريف.
ومهما كانت المبررات التي ساقها المستعمرون حينذاك لتبرير توسعهم والطعونات التي حاول المستعمَرون إضاءة ساحتها فاضحين المستعمِر تبقى ضرورة النظر إلى هذه الظاهرة بعين موضوعية أفضل وسيلة لفهم حاضر الفاعل والمفعول، وضرورة فهم حاضر المفعول أكثر إلحاحا – في نظري – خاصة وأنه يعتقد جازما بتحرّره بالأمس وحرّيته اليوم.
فالشعوب التي كان من سوء حظها أن وقع عليها الاستعمار تحوّل الأمل لديها بأن تكون هذه الظاهرة عابرة إلى حقيقة لا غبار عليها، خاصة بعد ما بذلته من جهد ومساع للتحرّر بمختلف أشكال تلك المساعي وذلك الجهد والذي تعتبره كلّل بالنجاح بمجرّد رحيل المستعمر بجنوده وجزء من إدارته وفاعليه الاقتصاديين فصدّقت فكرة التحرّر والاستقلال وتفنّنت في التغني به وتمجيده خاصة في مراحل مسيرتها الأولى وجسّدته في إقامة أشكال حكم بعيدة كل البعد عمّا كان عليه آباؤها وأجدادها قبل الاستعمار ولا ترقى إلى مستوى المحاكاة الجادة لما عليه أسياد الأمس القريب.
فالدول حديثة العهد بالاستقلال – كما كانت تحلو تسميتها – انهمكت في السعي إلى تجسيد أحلام عديدة أهمها تكريس مفهوم السيادة والذي غالبا ما اختصر في السيطرة على مجمل الأراضي وترسيخ مفهوم السلطة المركزية والحرص على عدم تدخّل الآخرين في شؤونها الداخلية وما إلى ذلك من مصطلحات ومفاهيم تطمئن لها نفوس الساسة ويتفاخرون بالنجاحات المحققة في هذا المجال أو ذاك متناسين أن الأحلام لا تكون إلا في فترات النوم العميق.
والذي فات الجميع إدراكه وغاب عن كل الأذهان أن السيادة كل متكامل يبدأ من الحوزة الترابية وتتجاوز حدوده الاستقلال في القرار الداخلي والخارجي واكتساب هيبة مقنعة ووزن يسمح بخلق التوازن بين المجتمعات وأنماط تعايش مشترك مستقرّة لا يختلف على مشروعيتها وتعاليها على الخلافات اثنان.
ومن أبرز الأدلة على انتقاص الاستقلال العجز عن التحكّم في الثروات الطبيعية في المرحلة الأولى نتيجة تبعيتها لشركات استعمارية مختلفة وفي مرحلة ثانية وبعد إنجازات استكمال الاستقلال الرائدة والمتمثلة في التأميمات المتتالية بالعجز عن بناء صناعات تحويلية من شأنها الرفع من القيمة المضافة وخلق نمو اقتصادي كفيل برفع الرأس. وحتى البلدان التي سعت إلى بناء صناعات على اختلاف صفاتها ثقيلة أو خفيفة لم تستطع تحقيق النجاح المرجو نتيجة ما تتطلبه أسباب نجاح النشاط الصناعي من تحكّم في الدورة المتكاملة للإنتاج والتي تبدأ بالمواد الأولية ورأس المال وتنتهي بالتحكم في الأسواق الاستهلاكية المتعدّدة. وهي شروط تكاد تكون مستحيلة التحقّق لأن الأهداف الإجرائية للاستعمار كظاهرة تكمن في تفكيك بنية الوحدات الاستهلاكية المغلقة مهما كانت ضيقة وهامشية تمهيدا لدمجها في دورة اقتصادية كاملة من خلال ترسيخ سلوك استهلاكي إراديّ أو عن طريق المحاكاة والعزوف عن التقنيات والأدوات الذاتية حتى وإن كانت بدائية لتلبية الحاجيات وفق ما خلّفه الاستعمار من آليات وتقنيات حديثة.
وبعبارة أكثر وضوحا جاء الاستعمار لكسر توازن كان قائما تمهيدا لخلق توازن جديد قوامه آليات ووسائل إنتاج غير ذاتية، وهي الوضعية التي يمكن أن نفهمها بسهولة أكثر إذا عبّرنا عنها بأن الاستعمار جاء بكل بساطة لوضع حدّ لحالات الاكتفاء الذاتي التي كانت تتمتع بها مجتمعات ما قبل الاستعمار ودمجها في الدورة الاقتصادية العالمية بوصفها سوقا استهلاكية واسعة فقضى بذلك على كل أسباب تحقيقها للتقدّم وفق حاجياتها والضرورات التي تولدها تلك الحاجيات، وضمنَ تجاوزها لنمط نموها البطيء بدفعها إلى تبنّي سلوكه الاستهلاكي ونمط عيشه مما مكنه من تنصيب نفسه وصيا عليها ينظّر لها سبل تحقيق التقدّم ووفق ما يراه هو من مؤشرات كمعدّل الدخل الفردي ونسبة النمو الاقتصادي ونمو السكان……
وهكذا أصبحت الدول حديثة العهد بالاستقلال تسعى حثيثا وراء تحقيق مؤشرات لا تمتّ لواقع شعوبها بصلة وإنما هي في الأصل مؤشرات مقارنة. فلم يعد يهمّ الدولة مثلا أن تتقاعس عن إسداء الخدمات التي هي معنى لمشروعيتها أصلا طالما يأتي ذلك في إطار الحد من النفقات حتى يرتفع مؤشر نسبة النمو الاقتصادي ذاك النمو الذي من شأنه إنجاحها في مساعي مزيد من الاقتراض والاستدانة مرتمية في أحضان مؤسسات النقد الدولية مستنيرة بهديها ساعية إلى تحقيق كل ما من شأنه إرضاؤها وتحقيق كل ما تطلبه هذه المؤسسات معقولا كان أو غير معقول، في صالح شعوبها أو ضدّ مصالحها فتجد الزعماء في خطاباتهم يتفاخرون بالارتقاء في درجات سلّم البلدان مرتفعة نسب النمو الاقتصادي ويصورون ذلك على أنه تحقيق للتقدّم والارتقاء إلى مصاف الدول المتقدمة ولا يدركون بل يدركون ويتناسون أن الزوارق التي يتربعون على قيادتها تغرق شيئا فشيئا تحت وطأة الديون وأثقالها، والمفارقة أنهم في نفس الوقت يتحدّثون عن السيادة والاستقلال وما على شاكلة ذلك من مصطلحات الأحلام.
والأمثلة على صدق مثل هذا التحليل لا تحتاج إلى بسط كي تبدو واضحة، فعلى سبيل المثال لا الحصر كان العراق من أكبر بلدان العالم الثالث “تقدما” وعلوّ شأن ومرتبة وصوّر شعبه على أنه يعيش في رفاه وترف ما سبق لهما مثيل في تاريخ شعوب العالم الثالث، بل ووصل العماء بساسته إلى درجة إعلانه أول بلد تخلّص من الأمية بشكل لا رجعة فيه وأنفقت أمواله في جميع أصقاع الأرض إرضاء لمجرّد رغبة حكامه، واليوم برز وجه العراق على حقيقته بأميته البنيوية وديونه التي تعجز حتى الولايات المتحدة الأمريكية عن تحمل أعبائها وتخلّفه الذي يقود كل يوم إلى انتهاك الحرمات وارتكاب الكبائر وحنين الجميع وتطلّعه إلى زمن طاغية يستعيد السيطرة على شعب جذوره في وضع الشرائع والقوانين قديمة قدم التاريخ، والفضل في بروز تلك العيوب كلها اليوم للعيان – إن كان في الأمر فضل – يعود هذه المرة وعلى غير العادة للاستعمار.
زيني محمد الأمين عبّاس
15 جانفي 2007